مقدمة:4 يتناول موضوعنا التعريف بعلم العروض من
حيث هو علم قائم بذاته، له قواعده وضوابطه ومصطلحاته التي خص بها وكتابته التي
يتميز بها عن غيره من علوم العربية، فهو يزاوج بين الكتابة واللفظ، بين الرسم
والنطق، ويتميز برموزه التي تقربه من علم الموسيقى بل هو علم موسيقى الشعر
لاعتمادهما على تقسيم الجمل إلى مقاطع صوتية تختلف طولا وقصرا بغض النظر عن بداية
الكلمات أو نهايتها لذلك فهو يتمتع بخصائص مميزة تستوجب دقة فائقة وحسما مرهفا
وأذنا موسيقية زيادة على المعرفة العلمية بقواعده وضوابطه لاكتساب معرفة سقيم
الشعر من سليمه ومكسوره من موزونه لأن العـروض:
((علم يبحث فيه عن أحوال الأوزان المعتبرة)) لأنه ((ميزان الشعر، به يعرف مكسوره
من موز ونه)) مثله مثل النحو الذي هو ((معيار الكلام به يعرف معربه من ملحونه)).
نشأته:4 نشأ علم العروض في القرن الثاني الهجري
على يد حبـر العربية وأبرز أعلامها الخليل بن أحمد الفراهيدي (175هـ)
الذي يرجع إليه الفضل في نشأة كثير من علوم اللغة كعلم المعاجم، وتوسيع النحو
وتقعيده، ويرجع رجال التراجم فضل السبق في نشأة علم العروض خاصة إلى الخليل، فابن
خلكان يذكر أن الخليل كان إماما في النحو ((وأنه هو الذي استنبط علم العروض وأخرجه
إلى الوجود، وحصر أقسامه في خمس دوائر، يستخرج منها خمسة عشرا بحرا، ثم زاد الأخفش
بحرا واحدا وسماه الخبيب (المتدارك). كما يذكر أن الخليل كان له معرفة بالإيقاع
والنغم، وتلك المعرفة أحدثت له علم العروض، فإنهما متقاربان في المأخذ)) (1).
أما ياقوت الحمـوي فيقول عن الخليل بن أحمد ((
أنه أول مـن استخرج العروض، وضبط اللغة، وحصر أشعار العرب، وأن معرفته بالإيقاع هي
التي أحدثت له علم العروض)) (2).
ويصف القفطي الخليل أحمد بأنه (( سيد الأدباء
في علمه وزهده، وأنه نحوي لغوي عروضي، استنبط من العروض وعلله ما لم يستخرجه أحد،
ولم يسبقه إلى علمه سابق من العلماء كلهم)) (3).
أما الأصفهاني حمزة بن
الحسن في كتابه ((التنبيه على حدوث التصحيف)) فيقول عن الخليل، كما روى عنه ابن
خلكان ذلك: (( إن دولة الإسلام لم تخرج أبدع للعلوم التي لم يكن لها عند العرب
أصول من الخليل، وليس على ذلك برهان أوضح من علم العروض الذي لا عن حكيم أخذه، ولا
على مثال تقدمه احتذاه، وإنما اخترعه من ممر له بالصفارين، من وقع مطرقة على طست))
(4).
ويستخلص مما سبق ذكره-
وهو قليل من كثير- أن الخليل هو أول مبتكر لعلم العروض، و حصر كل أشعار العرب-
الموزونة المقفاة لا الأشعار الحرة المستحدثة كالشعر المنثور أو النثر المشعور
الخ... في بحوره، ولم تقف عقليته المبتكرة عند هذا الحد، وإنما تجاوزته إلى ابتكار
علوم أخرى،فهو أول مبتكر لفكرة المعاجم العربية بوضعه "معجم العين" الذي
يحصر لغة أمة من الأمم قاطبة، وهو الذي وضع أساس علم النحو باستخدام مسائلة
وتعليله، ثم هو الذي اخترع علم الموسيقى العربية وجمع فيه أصناف النغم وبما أن علم
العروض هو علم موسيقى الشعر، فالصلة وثيقة بينه وبين علم الموسيقى وهي صلة متمثلة
في الجانب الصوتي.
(( فالموسيقى تقوم على
تقسيم الجمل إلى مقاطع صوتية، تختلف طولا وقصرا، أو إلى وحدات صوتية معينة على نسق
معين، بغض النظر عن بداية الكلمات أو نهايتها. وكذلك شأن العروض، فالبيت من الشعر
يقسم إلى وحدات صوتية معينة أو إلى مقاطع صوتية، تعرف بالتفاعيل يقطع النظر عن
بداية الكلمات أو نهايتها. فقد ينتهي المقطع الصوتي أو التفعيلة في آخر كلمة، وقد
ينتهي في وسطها، وقد يبدأ من نهاية كلمة، وينتهي ببدء الكلمة التي تليها)) (5).
البـاعث علىنشأة علم العروض:4 لقد ذهب الرواة في
تحديد الباعث الذي دعا الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى التفكير في علم العروض،
ووضع قواعده، وتحديد مصطلحاته وضوابطـه - مذاهب شتى منها ما يأتي:
1- قول ابن خلكان: "إن الدافعهو إشفاقه من اتجاه بعض شعراء عصره إلى نظم الشعر على أوزان لم يعرفها العرب، ولمتسمع عنهم، ولهذا راح يقضي الساعات والأيام يوقع بأصابعه ويحركها حتى حصر أوزانالشعر العربي وضبط أحوال قوافيه".2- ومن قائل " إنه وجد نفسهوهو بمكة، يعيش في بيئته يشيع فيها الغناء، فدفعه ذلك إلى التفكير في الوزنالشعري، وما يمكن أن يخضع له من قواعد وأصول، وقد عكف أياما وليالي يستعرض فيها ماروي من أشعار ذات أنغام موسيقية متعددة، ثم خرج على الناس بقواعد مضبوطة، وأصولمحكمة، سماها" علم العروض".3- ومن قائل" أنه اخترعه منممر له بالصفارين من وقع مطرقة على طست".ومهما كان الباعث، وأيا كان الدافع، فالثابت أن
الخليل هو واضع أصول علم العروض وقوانينه التي لم يطرأ عليها تغيير جوهري ولم
يزد عليها أحد شيئا بعد تلميذه الأخفش الأوسط أبو الحسن سعيد بن مسعدة الذي
وضع بحر الخبيب أو المتدارك ولكن لا ينبغي أن يفهم من وضع الخليل لعلم العروض أن
العرب لم تكن تعرف أوزان الشعر من قبل، فالحقيقة أنهم كانو قبل وضع الخليل
علم العروضي على علم بأوزان الشعر وبحوره المختلفة دون معرفة أسماء البحور
الاصطلاحية كما سماها الخليل. ذلك لأن علمها بذلك كعلمها بالإعراب في الكلام حين
كانوا على سليقة يرفعون أو ينصبون أو يجرون لبقيا دون معرفة بمصطلحات الإعراب
وقوانينه، وكذلك كانوا يدركون- بذوقهم وسليقتهم- ما يعتور الأوزان المختلفة من
زحافات وعلل، وإن لم يعطوها أسماء ومصطلحات كما فعل العروضيون. ورغم أوجه
الشبه بين علم العروض وعلوم العربية- كما قدمنا بعضها- إلا أن هناك
فارقا ملحوظا بينها من حيث النشأة. إذ أن علوم العربية كالصوتيات والصرف والنحو
والبلاغة قد استحدثت ثم أخذت تنمو شيئا فشيئا عبر الأجيال والعصور حتى بلغت
ذروة اكتماله أما علم العروض فقد أخرجه الخليل علما يكاد يكون كاملا وهو السر
في أن من جاء بعد الخليل من العروضيين لم يستطيعوا أن يزيدوا علىعروض الخليل أي
زيادة تمس الجوهر. فما السر في ذلك؟